وكالة أنباء الحوزة - يبدو أن شيئاً ما يحاك في الخفاء ويدبر بليلٍ، لكن بسرعةٍ وعلى عجلٍ، وبحذرٍ شديدٍ واهتمامٍ بالغٍ، فيما يتعلق بهوية الرئيس الفلسطيني الجديد، فهي شخصية محورية وأساسية بحكم الصراع مع الكيان الصهيوني، ولها دورها وتأثيرها الكبير على المسار الفلسطيني العام ومستقبل القضية الفلسطينية، وفقاً للصلاحيات الممنوحة له، والدور المنوط به.
ولهذا ينبغي أن تتمتع شخصيته بمواصفاتٍ خاصةٍ ومفاهيم متفق عليها ومقبولة، لا شك فيها ولا قلق عليها، وقد آن الوقت لحسم شخصيته وتحديد هويته، واختياره بدقةٍ متناهيةٍ من بين عددٍ من المرشحين لخلافة الرئيس محمود عباس، الذي أدرك بدوره أنه قد آن الأوان لحسم قراره، وجمع أوراقه وحزم متاعه تمهيداً للرحيل أياً كان نوعه، وفاةً أو تقاعداً، ويبدو أنه اختار، مرغماً أو مختاراً، الاستعجال بالثانية، إذ لم يعد هنالك متسعٌ من الوقت للمغامرة بالفراغ الرئاسي، أو المقامرة بانتخاباتٍ اضطرارية، لا تسمح بترتيب الأوراق وضبط دفتر الشروط.
قرار تحديد هوية الرئيس الجديد وتسميته ليست مهمة فلسطينية خالصة، وإن بدت أنها كذلك، أو ظهرت وكأنها نتيجة حساباتٍ حزبيةٍ ونتائج صناديق انتخاباتٍ شكليةٍ، فالفلسطينيون وفقاً للنظام الدولي المسيطر على المنطقة، والمتحكم في القرار الفلسطيني، هم آخر من يقرر في هذا الشأن، وأبعد الأطراف وإن كانوا هم أكثرها أصالةً، عن اختيار رئيسهم وتسمية الممثل لهم والناطق باسمهم.
الأطراف المتحكمة في القرار عربيةٌ ودوليةٌ، كما أنها إسرائيلية أيضاً، إذ لا يخفى على أحد أن الكيان الصهيوني هو الناخب الأكبر، وهو صاحب القرار الأول في تسمية رئيس السلطة الفلسطينية، وإن تم إخراج ذلك بأدواتٍ عربيةٍ، مصرية وأردنية وسعودية، وبإرادةٍ دوليةٍ أمريكيةٍ وأوروبية، إلا أنها جميعها تبقى ملتزمة بالضوابط الإسرائيلية، التي لا يقوى أي طرف على الحياد عنها أو معارضتها.
ولهذا يلتئم اليوم في مدينة رام الله المجلس المركزي الفسطيني، وعلى جدول أعماله تسمية رئيس المجلس الوطني الفلسطيني ونائبه وبقية هيئاته، ولكن المهمة الأساس تتمثل في تسمية أعضاء جدد لعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي سيشغل أحدها منصب أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، الذي سيكون صاحب الحظ الأوفر في الترشح لرئاسة الرئاسات كلها، حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة والدولة الفلسطينية، ويبدو أنه قد تم ضبط كافة التفاصيل، ورسم مختلف المسارات، تمهيداً لإعادة تشكيل المؤسسات الوطنية الفلسطينية لمواصلة المسيرة السياسية الفلسطينية ضمن نفس الشروط والضوابط.
أما العواصم المعنية بالقضية الفلسطينية، والمنشغلة بها واجباً أو تكليفاً، فهي لا تنفك تعقد الاجتماعات وتنظم اللقاءات المعلنة والسرية لمناقشة مستقبل الرئاسة الفلسطينية، التي باتت ملحة وضرورية، وعينها على التوافقات الدولية والشروط الإسرائيلية، ولا يعنيها أبداً الرغبات الفلسطينية، أو المواقف الشعبية للفلسطينيين عموماً في الوطن والشتات، فهم آخر من يسألوا أو يستشاروا، وليس أمامهم سوى القبول والتسليم، والتعامل مع الواقع المفروض، وهو نفس الواقع الذي ألزمهم به المجتمع الدولي لأكثر من ست عشرة سنة، منذ انتخابات العام 2006، التي لم تتجدد شرعيتها ولم تمدد قانوناً، بل فرضت قهراً وجبراً.
يبدو أن هناك خطوة تالية لقرارات المجلس المركزي، وهي مرتبطة به وغير منفكة عنه، وربما تم الاتفاق عليها قراراً وتوقيتاً، فقد يعلن الرئيس الفلسطيني في غضون الأيام القليلة القادمة، التي لن تزيد عن الشهرين إلى ثلاثة أشهرٍ على أبعد مدى، عن قرار استقالته من مناصبه الأربعة التي يستفرد بها، وإنسحابه من العمل السياسي، وقراره بالتقاعد والانتقال للعيش في إحدى الدول الخليجية، التي سترحب به وسفتح له أبوابها، وستكرمه وتهيئ له أسباب العيش الكريم في خاتمة أيامه، كرماً منها أو التزاماً بواجباتها المكلفة بها.
لم يعد هنالك أسماء كثيرة مرشحة لوراثة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فقد تراجعت بورصة المرشحين والمتنافسين، والمدعومين والمدفوعين، لصالح مرشحٍ وحيدٍ تدعمه المؤسسة الأمنية الفلسطينية، وتوافق عليه مختلف الأطراف العربية والدولية، فضلاً عن الكيان الصهيوني الذي يفضله ويريده، ويدعمه ويرشحه، ويرى أنه البديل الأنسب والوريث الأفضل، الذي يفهم جميع التفاهمات ويلتزم كل الاتفاقيات، ويدرك التوازنات القائمة، ويعلن التزامه به وعدم محاولة خرقها.
لكن يبدو أن هنالك معارضة إسرائيلية لهذا السيناريو المعد بدقة والمهيئ للإعلان قريباً، فبعض الباحثين والخبراء الإسرائيليين يحذرون من خطورة هذا السيناريو، ويرون أن محاولات فرضه بالقوة أو بالأمر الواقع، ستؤدي إلى فوضى عارمة، وإلى شيوع حالة من العنف والاضطراب في المناطق كلها، ولن يكون بإمكان الجيش والأجهزة الأمنية بطرفيها الفلسطيني والإسرائيلي، القدرة على ضبط الشارع الفلسطيني وتهدئته، آخذين بعين الاعتبار التطورات الأخيرة التي فرضت فلسطينيي الداخل كلاعبين رئيسين في أي حراكٍ فلسطينيٍ قادمٍ، وهذا الخلاف الفلسطيني الذي قد يستشري ويمتد، ويطول وينتشر، في ظل غياب زعامة فلسطينية رمزية، سيضر بالمصالح الإسرائيلية ولن يخدم أهدافها.
يؤمن هذا الفريق بحتمية التغيير الفلسطيني، ويعتقدون أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيقدم فعلاً على الاستقالة، وسيسلم القيادة إلى الجيل الوسط المتفق عليه، ولكن هذا القرار الأحادي من الجانب الفلسطيني، يحمل معه بذور الانفجار الكبير والتوتر الواسع والفوضى الشاملة، في حين أن الاتفاق مع التنظيمات الفلسطينية ومعها حركة حماس، سيفضي بالتوافق العربي والضغط الدولي إلى خلق قيادة بديلة، تتمتع ببعض القبول الشعبي، لكنها تخضع للشروط الدولية وتلتزم بها، وهذا الأمر من شأنه تطويع الأطراف المستعصية، وتليين مواقفها، وإدخالها تدريجياً إلى مربع التسوية الإقليمية، وقد ثبت أن التفاهمات المحكومة دولية والمضمونة إقليمياً تنتج هدوءً نسبياً.
هل سيطلق الرئيس الفلسطيني صافرة البدء ويعلن استقالته، ويرحل عن السياسة مورثاً غيره أعباءها، ويتقاعد بعيداً عن الوطن مستريحاً من الهم، أم أنه سيكذب كل التوقعات، وسيبطل كل القراءات، وسيبقى وهو المعروف بعناده، رئيساً حتى النزع الأخير من حياته.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي